18/ 07 / 2008
الأطباء الذين طالبوا بتدخل الرئيس لإنصافهم، مثلما فعل مع الحضري أثبتوا أنهم لا يجيدون قراءة خرائط هذا الزمن، إذ توهموا أنهم يمكن أن يلقوا نفس الاهتمام الرئاسي الذي حظي به حارس مرمي النادي الأهلي، لا أعبر في ذلك عن رأي شخصي، فأنا أعرف قيمة الطبيب والجهد الكبير الذي يتحمله لكي يحصل علي شهادته، بعد دراسة لمدة سبع سنوات غير سنة «الامتياز»، لكن قوانين السوق وضعت الحضري الحاصل علي الشهادة الإعدادية في مرتبة متقدمة عنهم ومقام أرفع كثيراً،
صحيح أنني أحمد للأطباء الذين تظاهروا أمام نقابتهم أنهم طالبوا بالمساواة مع الحضري في مجرد تدخل الرئيس لإنصافهم من خلال رفع قيمة البدلات التي تصرف لهم، ولم يخطر علي بال أحد منهم أن يطالب بالتساوي معه في الأجر، إلا أنه يتعين عليهم أن يدركوا من البداية أن هناك فرقاً بين الطبيب وبين لاعب الكرة، ذلك أن أي متتبع للشأن الاجتماعي وتحولاته في مصر لا تفوته ملاحظة أن الطبيب أو غيره من المهنيين وأهل العلم لم يعودوا ذوي الحظوة في هذا الزمان، وأن سعرهم في بورصة الشخصيات المقدرة والعامة في هبوط مستمر، كما أن حضورهم في الإدراك العام الذي تشكله قنوات التليفزيون وبرامجه أقوي بكثير من حضور كل طوابير المهنيين مهما علا شأنهم.
المفارقة تجسدها الأخبار المنشورة في عدد «الدستور» الصادر في 14/7 الحالي، ذلك أنه في ذات العدد الذي تحدث عن مظاهرة جماعة «أطباء بلا حقوق»، الذين طالبوا برفع مستواهم المالي، وغاية مناهم أن ترتفع قيمة البدل العددي من 20 و30 جنيهاً إلي 300 جنيه، فإن صفحات الرياضة في ذات العدد تحدثت عن أن النادي الأهلي دفع 70 مليون جنيه لشراء 9 لاعبين في حين دفع نادي الزمالك 65 مليون جنيه لشراء 6 لاعبين جدد!، وتلك شهادة توضح بجلاء المسافة الشاسعة في السوق بين قيمة الطبيب وقيمة لاعب كرة القدم.
أكرر أن ذلك التفاوت في الدخل والمكانة الاجتماعية ليس مقصوراً علي الأطباء وحدهم، ولكنه يشمل كل المهنيين وأساتذة الجامعات وغيرهم من الذين أفنوا حياتهم في المختبرات وفي بحور العلم المختلفة، ولا أتجاهل أن الفجوة هائلة في مصر بين مرتبات ودخول العاملين في الحكومة، وأن دخل الموظف الكبير أو المرضي عنه يمكن أن يصل إلي مائة ضعف دخل زميله في المكتب وسنة التخرج في الجامعة، ولا أستطيع أن أنسي أن أحد الأكاديميين المحترمين طالب ذات مرة بأن يتساوي راتب أستاذ الجامعة مع الراتب الذي يتقاضاه «فراش» في بنك تنمية الصادرات «وهو بنك حكومي»، لكن الذي يهمني في اللحظة الراهنة هو ذلك الخلل في منظومة القيم الاجتماعية الذي أدي إلي تراجع قيمة المهنيين وغيرهم من أهل العلم، بالمقارنة بالفئات الثلاث: لاعبو كرة القدم والمطربون والراقصات، وهو الخلل الذي أحدث انقلاباً في الإدراك العام، بحيث أقبلت أعداد غفيرة من الأسر متوسطة الحال علي إلحاق أبنائها بالفرق الرياضية في النوادي الكبيرة، أملاً في أن يفلح واحد منهم ويصبح نجماً كبيراً يعوض الأسرة وأجيالها المقبلة عن المعاناة التي عاشوا في ظلها.
يحتاج ذلك الخلل إلي تفسير قد تتعدد فيه الاجتهادات، إذ لست أشك في أن سياسة السلطة لها دخل في ذلك، لم تسع إلي رفع مكانة المهنيين والباحثين «الأطباء الذين يحلمون بزيادة بدل العدوي دليل علي ذلك» ثم إن الإعلام الذي لا يسلط أضواءه إلا علي اللاعبين والفنانين خاضع لسلطة الدولة وينفذ سياستها. وهناك رأي آخر له وجاهته، يري أن العرض والطلب أصبحا يتحكمان في كل شيء حولنا، بحيث لم تعد قيمة الفرد تقاس بكفاءته العلمية أو المهنية أو بحاجة المجتمع إليه، وإنما تقاس بعوامل العرض والطلب، فاللاعبون ترتفع أسعارهم لأن هناك جمهوراً مستعداً لتغطية نفقات استجلابهم، وكذلك الحال بالنسبة للمطربين والراقصات، لكن الأطباء وغيرهم من المهنيين والعلماء ليس لهم جمهور مستعد للدفع بسخاء لهم، وهو ما يستوجب إعادة التفكير بشكل جاد في ضرورة إخراج هذه المهنة من سوق العرض والطلب، علي الأقل حتي لا يندم الأطباء لأنهم أكملوا تعليمهم ولم يصبحوا لاعبين لكرة القدم أو مطربين.
الدستور
No comments:
Post a Comment