Sunday, June 21, 2009

في محرقة سياسات الصحة شباب الاطباء ومبادئ المهنة وصحة افلقراء

مرحبا بكم فى الموقع الرسمى للنقابة العامة لأطبـــاء مصــــر









شباب الأطباء فى الامتياز والتكليف والنيابة .. أوضاع مأساوية

متاعب بداية الطريق قد تجمع الأطباء – وربما تدفع بعضهم لرفع أصواتهم احتجاجاً .. لكن سرعان ما ينشغل كل منهم بطريقة الفردى للتواؤم والخروج من مرحلة عنق الزجاجة، وتظل المتاعب نفسها في طريق الآتين بعدهم يعانون منها كما يعاني النظام الصحي والمجتمع كله معهم. محمود خليفة الآن أمام خيار صعب. هو طبيب شاب حديث التخرج أتم لتوه سنة الامتياز التى رتب فيها أموره بشكل ما ليتوافر له الوقت ليعمل فى شركة لإنتاج الأفلام الوثائقية. ولكن بعد سنة الامتياز جاءه خطاب التكليف، وعليه أن يتفرغ تماما للعمل فى وحدة صحية بإحدى المحافظات مقابل أجر زهيد لا يمكن مقارنته بأجره فى شركة الإنتاج. ولكن لأنه أقدم على الخطوبة وعليه سداد أقساط شقة ومسئوليات مالية، فهو يؤجل ذهابه إلى التكليف ويفكر أى الطريقين يسلك. فى الطريق الأول عليه أن يقبل التكليف لمدة سنتين مقابل راتب 200 جنيه شهريا، ثم يعين بعدها طبيبا نائبا فى مستشفى حكومى لمدة 3 أو 4 سنوات بزاتب لا يزيد كثيرا على راتب التكليف، ويحاول أن يعد الماجستير لينتقل من ممارس عام إلى إخصائى لتتحسن أحواله قليلا، ولكن عليه أن ينسى تماما الاعتماد على نفسه فى أمر الزواج قبل ست سنوات على الأقل. أما فى الطريق الثانى فيرفض التكليف ــ مما يعنى استقالته من وزارة الصحة ــ ويظل فى مهنته المؤقتة المربحة ويترك الطب. الفرصة التى أتيحت لمحمود لكى يعمل بأجر مناسب بعد تخرجه ويبدأ فى الادخار لبداية حياته المستقلة ليست متاحة لكل شباب الأطباء، لكنها حالة دالة: شاب أتم الدراسة التى يتسابق عليها معظم الطلبة المصريين ويحلمون بمستقبلها الباهر، لكنه يفكر فى تحويل مساره لأن هذا المستقبل سيتأخر كثيرا مع الطب. أما بالنسبة لشباب الأطباء ممن لا تتوافر لهم خيارات أخرى، فعلى أسرهم مساندتهم لست سنوات أخرى على الأقل حتى يمروا من مرحلة عنق الزجاجة، ليأتى الدور على دفعات أخرى من الأطباء لتعيش المرحلة نفسها. لم تعد شكوى الأطباء غريبة منذ أن رفع بعضهم أصواته التى تطالب بإصلاح النظام الطبى وتعديل أجور الأطباء فى وزارة الصحة إلى الحد الأدنى المقبول. وحتى بعد هذه الاحتجاجات، يعتقد الكثير من الناس أن العمل بالقطاع الخاص فى الطب خيار متاح ومربح فى نفس الوقت. ولكن ذلك يتجاهل الجانب الآخر من متاعب هذه المرحلة. يوضح محمود: «قد يبدو خيار ترك الوزارة والعمل فى القطاع الخاص سهلا فى نظر الناس، ولكن فعليا شباب الأطباء فى المرحلة الأولى من عملهم يحتاجون للتعيين فى وزارة الصحة، لا من أجل رواتبهم ولكن من أجل أن يتعلم الطب حقا، فهم ليسوا مؤهلين للعمل فعليا فى القطاع الخاص بعد ست سنوات من الدراسة و12 شهرا من التدريب فى سنة الامتياز وحتى بعد سنتى التكليف». «لا تطلب منى شيئا ولن أطلب منك شيئا» هذه الصيغة من الاتفاق بين طبيب الامتياز ومن يقومون بتدريبه هى جزء من السبب حسب تجربة الطبيب أحمد حسان الذى يضيف: «المسئول عن تدريب أطباء الامتياز هم الأطباء النواب، الذى لا يكبرونهم كثيرا، ويمرون بمرحلة صعبة مرهقة ويقيمون غالبا فى المستشفيات التعليمية ويكونون فى موقع المسئولية 24 ساعة مقابل أجور زهيدة». يقول أحمد حسان إن هذا الوضع يجعل معظم النواب المحملين بالأعباء غير قادرين على تحمل عبء الانتباه كثيرا لتدريب أطباء الامتياز، وفى المقابل يود طبيب الامتياز أن يتهرب من مناوباته ليحاول أن يعمل ويكسب شيئا يجعله قادرا فقط على تغطية تكلفة نفقاته الشخصية بدلا من أن يظل يطلب المصروف من والديه. المهن التى يعمل بها أطباء الامتياز تتنوع بين العمل فى مناوبات بمستشفيات أو فى صيدليات أو العمل كمندوبى مبيعات فى شركات الأدوية. وفى كل هذه الأعمال قد يتقاضى طبيب الامتياز مقابل مناوبة 24 ساعة خمسين جنيها وإن زادت قليلا تظل أقل من أجر الخريج الحديث من كلية الصيدلة نظرا لأن طبيب الامتياز يعمل مؤقتا، كما أنه مؤهل أكثر من خريجى الكليات النظرية للعمل كمندوب لمبيعات الأدوية. ولإتمام هذا الاتفاق يحدث عادة أن يتفق أطباء الامتياز والأطباء النواب مع رؤساء الأقسام أو الإدرايين على استيفاء الأوراق وتوقيعات الحضور. ولكن إن لم يكن طبيب الامتياز راغبا فى عقد هذا الاتفاق وأصر على حقه فى التعلم، فربما يواجه تجربة الطبيب على هاشم، الذى يقول إنه أتم مناوباته كاملة فى الامتياز. ولكنه فى النهاية وجد نفسه يقوم بأعمال السعاة والعمال ــ ليس حتى أعمال التمريض ــ فعليه فى فترة تدريبه أن ينقل أكياس الدم أو يعد أرشيفا لأوراق قسم ما أو يقوم بنفسه بإنهاء استيفاء أوراق وإجراءات إدارية، والحجة دائما أن هناك نقصا فى العمالة. يقول على: «كل طبيب امتياز يعرف أنه إذا أراد أن يتعلم فعليه أن يقضى وقت تدريبه فى الأعمال غير المفيدة، ويمكنه أن يأتى ليشاهد العمليات ويسأل النواب فى غير هذه الأوقات». وفى النهاية على هاشم ليس راضيا عما تعمله فى الامتياز، وأحس بذلك عندما ذهب ليقضى فترة التكليف فى وحدة صحية بقرية فى الفيوم ووجد نفسه مسئولا عنها بشكل كامل ومسئولا عن صحة أعداد كبيرة من الفقراء يأتون للوحدة يوميا. يقول: «ما يحدث أيضا أن عددا كبيرا من الأطباء يتحايل على التكليف ليتمكن من العمل فى مناوبات فى المستشفيات الخاصة مقابل أجور قليلة ولكنها ضرورية لأن راتب التكليف ربما لا يكفى المواصلات من الوحدة وإليها». والحل الآخر كما يراه الطبيب أحمد حسان هو التكيف مع الأمر الواقع وعقد اتفاق آخر.. «كأننا نعطيك أجرك وكأنك تؤدى عملك».. هكذا يلخص أحمد حسان صيغة الاتفاق الجديد، الذى يراه خطيرا جدا. فمعظم أطباء التكليف يواجهون المرضى وحدهم بدون أن يشعروا أنهم تلقوا التعليم الكافى، وفى الوقت نفسه يحسون بأنهم لا يتلقون التقدير الكافى لكى يبذلوا قصارى جهدهم لخدمة المرضى فى ظل نقص فى الإمكانات والعمالة وأوضاع معيشية سيئة تسبب أوضاعا صحية متردية. يضيف أحمد: «هذه الصفقة تستمر أيضا عند تعيين الطبيب نائبا فى مستشفيات وزارة الصحة، بل تستمر أكثر لأن النائب خلال سنواته الثلاث الأولى يقيم فعليا فى المستشفى، وعليه أن ينهى دراسة الماجستير ليكون إخصائيا، ولا يكون متاحا له أن يعمل فى مكان آخر ليزيد دخله الذى لا يتجاوز فى أحسن الأحوال الألف جنيه فى مقابل تفرغ كامل ومجهود كبير». فى الواقع أزعجت هذه الاتفاقات أحمد حسان إلى الحد الذى جعله يبتعد عنها ولكن بشكل ما أصبحت دراسة المشكلات وراء هذه الاتفاقات هى تخصصه، فهو اختار فى مرحلة النيابة تخصص دراسة السياسات والنظم الطبية فى قسم الصحة العامة، وهو قسم يدرس العلاقة بين الطب والمجتمع ولا يقوم أطباؤه بالتعامل مع المرضى. يعتقد أحمد حسان أن هناك مشكلات كثيرة تسببها هذه الفترة من حياة الأطباء. فبعد تلك المتاعب الكبيرة والحياة المؤجلة والمسئوليات الجسيمة فى مقابل التقدير المادى الضعيف، يخرج الأطباء إلى المجتمع بوضع متميز وإمكانات تؤهل لهم مكسبا كبيرا وتقديرا أكبر. ولكنهم فى رأيه يخرجون من هذه المرحلة منفصلين اجتماعيا، لديهم ميل للأنانية والإحساس بمسافة بينهم وبين المجتمع. فقد عاشوا الظلم وعدم التقدير لفترة طويلة والآن حان وقت أن يلتفت كل منهم لنفسه. المشكلة الأخرى كما يراها أحمد حسان هى أن أطباء المرحلة الأولى هم من يواجهون الأعداد الكبيرة من فقراء المرضى فى الوحدات الصحية والمستشفيات الحكومية والتعليمية، فى حين أن الأساتذة والأطباء الكبار كثيرا ما يكونون مشغولين بعياداتهم ومستشفياتهم الخاصة، التى لا تحظى إلا الطبقة الوسطى وما فوقها فقط برفاهية العلاج فيها بتكاليف أكبر. المشكلة الثالثة وهى التواؤم والاتفاقات المستمرة مع الأوضاع غير المرضية، سواء لمواجهة نقص الخبرة والإمكانات أو بسبب رغبة الطبيب فى زيادة دخله فى هذه المرحلة، وهو ما يجعل بعض الأطباء يحاولون إنجاز عملهم وحسب ــ فى حدود اتفاقات الأمر الواقع ــ وليس إنجازه بشكل مرض أو مناسب. «ليس مبررا» من زاوية أخرى، تنظر جاين لوميل، الطالبة بالسنة النهائية بكلية الطب بإحدى الجامعات الخاصة. فترى أن مطالب الأطباء مشروعة ولكن حتى نيلها فالأوضاع الحالية ليست مبررا للاتفاقات السابق ذكرها وتعتقد أن الأطباء يتحملون جزءا من المسئولية عن تردى النظام الصحى: «حتى ينالوا حقوقهم لا يجب أن يدفع المجتمع الثمن، فهنا نحن أمام صحة إنسان، كما أن وضع الطبيب حديث التخرج لا يختلف عن وضع مهنيين آخرين، بل هو يتحمل بضع سنوات قبل أن تتحسن أحواله كثيرا. والكل يتحمل رواتب وزارة الصحة لكى يضع على عيادته لافتة بها اسم المستشفى الحكومى المشهور المعين به، لماذا لا يضحى قليلا حتى ذلك الوقت»؟ بعد فترات تدريب قضتها فى المستشفيات، انتهت جاين إلى نفس ما يقوله أحمد حسان الأطباء يتحولون إلى مجتمع مغلق على ذاته ومنفصل عن المجتمع: «هناك ما يقال بين أوساط الأطباء وما يقال خارجه، ورأيت بنفسى ممارسات فى المستشفيات لا تختلف عما أسمعه عن أقسام الشرطة: «الإهانة والتهديد وإساءة المعاملة» ودائما يبررون ذلك بضيق الوقت وقلة الإمكانات وعدم وعى الناس، بينما فى الحقيقة كثير من الأطباء لا يعرفون شيئا عن الأوضاع المعيشية لغالبية المصريين. فتجد طبيبا يعنف سيدة تسكن فى «الكيلو 4.5» لأنها لا تحمم أطفالها يوميا ولا تهتم بنظافتهم لأنه لا يعرف أنهم يعانون من نقص المياه النظيفة أصلا». تضيف جاين إن هناك مشكلة فى التعليم الطبى الذى لا يمنح الطبيب نظرة واسعة على الحياة، حتى فى أشياء يحتاجها مثل الإدارة، فبعد سنوات يشترك فعليا فى إدارة وحدة صحية أو مستشفى. جاين تتفق مع زملائها فى أن دراسة الطب حتى التكليف غير كافية لتعطى الخبرة اللازمة، ولكنها تستنكر أن الأطباء لا يتذمرون عادة من ذلك بل يشكون من تكليفهم فى مناطق بعيدة ونائية وتقدم الطبيبات شكاوى يقلن إن تكليفهن أتى بين أحضان جبال التيه! رغم أن واجب الأطباء، ذكورا وإناثا، تقديم الخدمة الطبية لأهل هذه المناطق. زملاء جاين من خريجى جامعتها الخاصة لا يفضلون أيضا الذهاب بعيدا ولكنهم لا يغامرون أيضا بترك فرصة التعيين فى وزارة الصحة، فهى تقول إن معظمهم يقوم بعمل اتفاق ودى لتجنب قضاء فترة الامتياز فى المستشفيات الحكومية، وبموجب الاتفاق يتم ترتيب الأوراق وتوقيعات الحضور بشكل ما لكى يقضى الطبيب فترة الامتياز فى جامعته الخاصة لكى يحظى ببعض التعليم وفى نفس الوقت يحافظ على فرصته فى التعيين فى وزارة الصحة. جاين قررت أنها ستستقيل من الوزارة لتتجنب مثل هذه الأوضاع ولأنها لا تعتقد أنها تلقت تعليما وخبرة كافية لإدارة وحدة صحية وحدها فى التكليف، لكنها ستحاول إكمال تدريبها ولو انتظرت فترة قبل تحقيق دخل جيد. ولكن يساعدها فى ذلك الخيار أنها تعمل فى مجال الترجمة. وبينما لايزال محمود خليفة يفاضل بين الطريقين، وأحمد حسان يعتبر نفسه الآن باحثا وليس طبيبا منتظرا فرصة أفضل لكى يعود إلى المجال الإكلينكى، فإن على هاشم، الذى لم يتخذ طرقا أخرى، ينتظر قضاء فترة التجنيد لكى يسافر إلى أى دولة خليجية لكى يختصر المسافة بينه وبين أول خطوة فى حياته المستقلة التى بدأها أقرانه منذ سنوات. نقلاً عن جريدة الشروق الجديد

No comments: