د.حنا جريس
عن الرعاية الصحية وأحوال الأطباء
أظن أننا جميعا نتفق على أن حق الرعاية الصحية للمواطنين كفله الدستور ليكون من واجبات الدولة ، إنما يأتي الاختلاف حول سبل تحقيق
والمجتمع الطبي يرتكز على دعائم ثلاث ، الدعامة الأولى علمية ومهنية يتعلمها الفرد في كليات الطب المعتمدة حتى يتأهل للمهنة ويصبح طبيبا ، والدعامة الثانية قانونية حيث يتم الاعتراف بالفرد طبيبا مؤهلا بحصوله على الترخيص المهني المناسب، أما الدعامة الثالثة فتتعلق بما استقر في الوعي الإنساني عن الطبيب، مكانته وأخلاقه، فهي أداب المهنة وأخلاقها. ولا استغناء للطبيب عن أي من هذه الدعامات الثلاث فبدون أي منها يفقد شرعيته العلمية والقانونية والاجتماعية والأخلاقية كطبيب.
وبينما تتمحور الرعاية الصحية حول المريض، فإن المجتمع الطبي له محاور ثلاث للاهتمام هي المريض والبحث العلمي والثراء المادي. ومراجعة محاور الاهتمام تلك في غاية الأهمية لأنه لايمكن تحسين أوضاع الرعاية الصحية في مصر بدون التطابق بين هدفها وأحوال الأطباء ، فهم من يقدمون الرعاية . وأحسن الأوضاع المأمولة لأي نظام صحي أن يكون جل اهتمام الطبيب هو المريض وجل اهتمام المجتمع هو توفير العلم والكرامة للطبيب.
وعندي أن أهم أسباب التخبط في أنظمتنا الطبية هو هذا التداخل بين مؤسسات التعليم الطبي وسوق الخدمات الصحية . فكثيرا ما يطرح السؤال كيف يمكن للأستاذ الجامعي أن يقوم بالأعباء الهائلة التي تفرضها عليه مهنته كمعلم جامعي من محاضرات، إلى حلقات الدرس في المستشفى ، إلى الاشراف على رسائل الماجستير والدكتوراه ومناقشة رسائل أخرى إلى تحضير أبحاثه الشخصية التي تضمن له الترقي في درجاته العلمية والتقدم في مستوله العلمي أخرى، إلى تحضير أبحاثه الشخصية التي تضمن له الترقي في مكانته الجامعية والتقدم في مستواه العلمي ، إلى حضور المؤتمرات العلمية هنا وفي الخارج ثم متابعة مرضى القسم الذي يشرف عليه في المستشفى الجامعي والقيام بالعمليات الجراحية إن كان جراحا. ثم بعد ذلك كله يذهب لمتابعة مرضاه في المستشفيات الخاصة وربما يشترك في حديث تلفزيوني أو إذاعي هنا أوهناك ، لينتهي به المطاف في عيادته الخاصة التي غالبا ما يرتادها في منتصف الليل للكشف على مرضاه.
أي سوبرمان هذا الذي يستطيع فعل ذلك كله بدقة ودون أخطاء؟ ومن يضمن لنا أن يقوم برسالته الأساسية كمعلم وباحث على أدق وجه؟ . فأغلب الظن أن مريض العيادة الخاصة الذي يدفع الأموال بصورة مباشرة في مقابل الخدمة الطبية سيكون له الأولوية كونه المصدر المباشر للثراء، وبالتالي تصبح الدرجة العلمية والمكانة الجامعية جواز مرور لدى المرضى في العيادة الخاصة والمستشفى الخاص ومن ثم تتشكل الأساطير حول رموز وهمية لمهنة الطب تسئ إلى المهنة كلها وتسئ ايضا إلى الشرفاء من الجامعيين والأطباء. وهي أدت في النهاية إلى تدهور الخدمات الصحية وتدهور العملية التعليمية في آن واحد.
ودليلي على تأثير هذا المناخ على التعليم الطبي هذا التدهور الذي حدث لمكانة الطبيب المصري مهما كان مؤهلا ومن حملة الماجستير والدكتوراه في البلدان العربية ومعظمها باتت تُخضع الأطباء المصريين الراغبين للعمل لديها للاختبار حتى تجيز لهم العمل لديها وهو الأمر الذي لم يكن واردا منذ عشرين عاما. أي هوان وصل إليه التعليم الطبي في مصر بعد أن انتشرت الدروس الخصوصية في الكلية حتى وصلت إلى طلبة الدراسات العليا .
في المقابل هناك الألاف من الأطباء يعانون الأمرين في الحصول على التخصص المناسب والعمل في الحكومة والقطاع الخاص بأجر زهيد يضطره إلى العمل في عدة عيادات ومستشفيات في أماكن مختلفة سعيا وراء الرزق في كل مكان. وهذه الفئة المطحونة من الأطباء هي الفئة التي يطلب منها تحمل مشاريع الرعاية الصحية للدولة. وهؤلاء هم من ينبغي أن تدعمهم الدولة والمجتمع. وإن كان المجتمع لا يستطيع توفير أوضاع كريمة لهم فإن للدولة من الأدوات التي يمكنها من إعادة الأنضباط للمجتمع الطبي وسوق الرعاية الصحية.
وعندي اول هذه الإجراءات فصل التعليم الطبي عن سوق الخدمات الطبية بحيث لا يجوز لهيئات التدريس العمل خارج مستشفيات الجامعة ليصبح محور التزام الأستاذ هو طلابه وأبحاثه ومرضى القسم الذي يشرف عليه . فخدمة التعليم الطبي وواجباتها تقتضي التفرغ لها تفرغا كاملا . ففي عالم الطب ليس أهم ولا أرقى من مهمة التعليم الطبي وليس أقل من أن يكون المعلم متفرغا لها حتى يستطيع تعليم الطبيب الناشئ العلم وينقل إليه الخبرة المهنية في التعامل مع المرض، والخبرات الأخلاقية في التعامل مع المريض، ويعطيه مثلا في الحفاظ على أخلاق المهنة وأدابها . وفي المقابل ينبغي على المجتمع أن يحفظ لمثل هذا الطبيب المعلم كرامته ومكانته وحياته الكريمة فبدونه لن نجد الطبيب الذي يخفف لنا الألام ، وهو إجراء سيؤدي إلى إعادة الإتزان في المجتمع الطبي ومن ثم الرعاية الصحية.
No comments:
Post a Comment